شهدت المملكة العربية السعودية في السنوات الأخيرة سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية والتشريعية، بهدف تهيئة بيئة استثمارية جاذبة وتعزيز ثقة السوق المالية. ومن أبرز هذه الإصلاحات صدور نظام الإفلاس بموجب المرسوم الملكي رقم (م/50) بتاريخ 28/05/1439هـ، الذي يُعد أول إطار نظامي متكامل لتنظيم حالات الإفلاس في المملكة بعد أن كانت تُعالج سابقًا ضمن أحكام النظام التجاري القديم بصورة غير شاملة. ويهدف النظام إلى المعالجة القانونية والاقتصادية المتوازنة لحالات التعثر المالي، مع مراعاة استمرارية النشاط الاقتصادي كلما أمكن ذلك.
أولًا: أهداف نظام الإفلاس
يهدف نظام الإفلاس إلى تحقيق مجموعة من الأهداف التي تخدم المدين والدائن والاقتصاد الوطني، أبرزها:
- تمكين المدين المفلس أو المتعثر أو المتوقع تعثره من تنظيم أوضاعه المالية عبر إجراءات الإفلاس بما يمكنه من استمرارية نشاطه ودعمه للاقتصاد الوطني.
- مراعاة حقوق الدائنين وضمان معاملتهم بعدالة وفق أولويات منظمة، بما يعزز الشفافية والمساواة في توزيع حصيلة أصول التفليسة.
- تعظيم قيمة الأصول من خلال إجراءات بيع منظمة تحقق أفضل عائد، مع ضمان عدالة التوزيع عند التصفية.
- تقليل التكاليف ومدد الإجراءات وزيادة الكفاءة، خاصة في حالات صغار المدينين سواء في إعادة ترتيب أوضاعهم أو تصفية أصولهم.
- إتاحة التصفية الإدارية في الحالات التي لا يُتوقع تحقيق ناتج مالي كافٍ لتغطية مصروفات التصفية أو في حالات صغار المدينين، بما يحقق السرعة والفعالية وتقليل التكلفة.
ثانيًا: مبدأ تعليق المطالبات وحماية المدين
أقر نظام الإفلاس مبدأ تعليق المطالبات كأداة قانونية لضمان حماية المدين، بحيث يتم تعليق جميع الإجراءات والمطالبات القضائية والتنفيذية ضد المدين فور صدور حكم افتتاح إجراء الإفلاس، سواء كان إجراء تسوية وقائية أو إعادة تنظيم مالي.
ولا يُمنح التعليق تلقائيًا، بل يتم بطلب إلى المحكمة مرفقًا بمبررات وتقرير أمين الإفلاس يُرجح فيه نجاح خطة التسوية أو التنظيم، بما يحقق التوازن بين مصالح المدين والدائنين. ويهدف هذا التعليق إلى تمكين المدين من ترتيب أوضاعه المالية خلال “فترة الحماية النظامية”، دون ضغوط خارجية قد تعرقل محاولات الإنقاذ المالي، مع وجود رقابة قضائية لضمان عدم إساءة استخدام الحماية الممنوحة.
ثالثًا: أنواع إجراءات الإفلاس
قسّم النظام إجراءات الإفلاس إلى ثلاثة أنواع رئيسية، لكل منها هدف قانوني محدد:
- إجراء التسوية الوقائية
هو إجراء يتيح للمدين الاتفاق مع دائنيه على إعادة جدولة الديون ضمن خطة تهدف لاستمرارية النشاط واستعادة التوازن المالي، ويُفتتح هذا الإجراء بناءً على طلب المدين فقط.
شروط افتتاح التسوية الوقائية وفق المادة (15) من النظام:
- وجود إمكانية مرجحة لاستمرار النشاط وتسوية الديون خلال فترة مناسبة.
- أن يكون المدين مفلسًا أو متعثرًا أو يُرجح تعثره مستقبلًا.
- تقديم المدين كافة المعلومات والوثائق المطلوبة بموجب النظام.
- تصنيف الدائنين إلى فئات متعددة وفق أسس عادلة.
تُرفض الطلبات غير المستوفية للشروط، أو في حال ثبوت سوء نية المدين أو ارتكابه مخالفات نظامية، كما يجوز للمحكمة تأجيل الجلسة لمدة لا تتجاوز (21) يومًا لاستكمال المتطلبات النظامية.
- إجراء إعادة التنظيم المالي
يهدف إلى تمكين المدين المتعثر من إعادة هيكلة ديونه وتنظيم أوضاعه المالية تحت إشراف أمين إفلاس مُعين من المحكمة، ويمكن افتتاحه بطلب من المدين أو أحد دائنيه.
شروط افتتاح إعادة التنظيم المالي وفق المادة (43):
- وجود احتمال واقعي لاستمرار النشاط وسداد الديون خلال فترة مناسبة.
- أن يكون المدين مفلسًا أو متعثرًا أو مرشحًا للتعثر.
- تقديم المستندات والبيانات النظامية المطلوبة.
يتولى أمين الإفلاس إدارة الإجراء، وإعلان الحكم الصادر خلال (7) أيام، ودعوة الدائنين لتقديم مطالباتهم خلال مدة لا تتجاوز (90) يومًا، مع تمكينه من الاطلاع على الوثائق والبيانات المالية المتعلقة بنشاط المدين لمباشرة الإجراءات بفعالية.
- إجراء التصفية
يتم اللجوء إليه عند استحالة استمرارية النشاط أو تعذر تنفيذ التسوية أو إعادة التنظيم، ويتضمن:
- حصر أصول المدين وبيعها بطريقة منظمة ومهنية لسداد الديون.
- توزيع الحصيلة وفق ترتيب الأولوية المنصوص عليه نظامًا (الديون المضمونة، الممتازة، ثم العادية).
- توزيع الفائض -إن وجد- على الشركاء أو المساهمين بعد استيفاء الديون.
وفي حال عدم كفاية الأصول لتغطية مصروفات التصفية، يجيز النظام التصفية الإدارية لتقليل التكاليف، خاصة إذا كان المدين من صغار المدينين.
جاء نظام الإفلاس السعودي كإضافة نوعية إلى البيئة التشريعية في المملكة، ليحقق التوازن بين مصالح الدائنين والمدينين، ويعزز استقرار السوق المالي، ويمكّن المنشآت من الاستمرار في النشاط الاقتصادي متى ما كان ذلك ممكنًا. كما أتاح النظام إجراءات متعددة تبدأ بالتسوية الوقائية، مرورًا بإعادة التنظيم المالي، وصولًا إلى التصفية، بما يعكس مرونة المنظومة القانونية وقدرتها على التعامل مع حالات التعثر المالي وفقًا لأفضل الممارسات الدولية، مما يعزز من جاذبية بيئة الاستثمار وثقة المستثمرين في المملكة العربية السعودية.