تُعد المحاكم العسكرية إحدى الركائز الجوهرية في البنية العدلية للدول، نظراً لاختصاصها النوعي بالنظر في القضايا والنزاعات التي تنشأ داخل المنظومة العسكرية وبين منسوبي القوات المسلحة. وتختلف هذه المحاكم عن نظيراتها المدنية من حيث طبيعة القضايا والاختصاص والأحكام الصادرة عنها، إذ تركز على كل ما يتعلق بالأمن العسكري والنظام والانضباط داخل الوحدات العسكرية.
وفي المملكة العربية السعودية، خُصّص “ديوان المحاكمات العسكرية” للنظر في الجرائم والمخالفات المرتكبة من قبل العسكريين، ويستند في أعماله إلى “نظام العقوبات العسكري” الصادر عام 1366هـ، وهو أول نظام جزائي عسكري متكامل في الدولة. وقد جاء هذا التنظيم استجابةً لحاجة المؤسسة العسكرية إلى بيئة قانونية منضبطة تحفظ الأمن الداخلي، وتحمي الجاهزية القتالية، وتعزز من هيبة القوات المسلحة.
أولًا: تعريف ديوان المحاكمات العسكرية واختصاصاته
تعريف الديوان:
ديوان المحاكمات العسكرية هو الجهة القضائية المختصة بمحاكمة جميع منسوبي القوات المسلحة، من ضباط وأفراد وأركان، سواء خلال الخدمة أو بعد التقاعد، متى ما ثبت ارتكابهم جرائم عسكرية. ويمتد اختصاصه إلى المدنيين المرافقين للجيش في ميادين العمليات.
تُعد أحكام الديوان قطعية بعد التصديق الرسمي، حيث تُعرض العقوبات الجسيمة -مثل الإعدام أو الطرد المؤبد- على القائد الأعلى للقوات المسلحة، أما العقوبات الأدنى فيُصدق عليها وزير الدفاع.
اختصاصاته:
- النظر في الجرائم العسكرية
تشمل جميع المخالفات المرتكبة من العسكريين وفقاً للنظام العسكري أو الأوامر والتعليمات الصادرة. - محاكمة العسكريين وقت السلم والحرب
يباشر الديوان مهامه في جميع الأوقات، مع صلاحيات موسعة في فترات الحرب والطوارئ لضبط الأمن والانضباط العسكري. - الفصل في الجرائم ذات الطابع الأمني العسكري
كقضايا التمرد، التجسس، العصيان، الفرار، وتسريب المعلومات العسكرية. - تطبيق نظام العقوبات العسكري
يقوم بتطبيق ما نص عليه النظام من عقوبات وإجراءات تأديبية على مختلف أنواع المخالفات. - النظر في الطعون التأديبية
وفقاً لما تتيحه اللوائح التنفيذية، يختص أحياناً بمراجعة قرارات تأديبية أو شكاوى مقدمة من العسكريين. - حماية المؤسسة العسكرية
بإصدار أحكام تُرسّخ الانضباط وتحد من التجاوزات التي تمس الكفاءة والسمعة المؤسسية.
ثانيًا: هيكل الديوان وضمانات الاستقلال القضائي
يتكون الديوان من:
- رئيس
- أربعة أعضاء
- مستشار قضائي
- كاتب ضبط
- كاتب وارد
ويُشترط أن يكون رئيس الديوان أعلى رتبة من المتهم أو مساويًا له على الأقل، مع أولوية الأقدمية في الرتبة. كما يمنع النظام مشاركة أي شخص له صلة قرابة أو خصومة مع المتهم في تشكيل الهيئة القضائية.
يتم تشكيل هيئة الديوان بشكل دوري كل ستة أشهر لضمان التجديد والشفافية وعدم احتكار مواقع المحاكمة.
ثالثًا: تصنيف الجرائم العسكرية
يصنّف نظام العقوبات العسكري الجرائم إلى ثلاث فئات رئيسية:
- المخالفات البسيطة (إدارية):
مثل الغياب بدون إذن أو التأخر، وتشمل الحسم من الراتب أو السجن حتى 45 يومًا. - الجنح (تأديبية):
كإساءة استعمال السلطة أو مخالفة التعليمات، وتُعاقب بالحبس من 6 أشهر حتى 18 شهرًا، أو الحسم من راتب شهر إلى 3 أشهر. - الجنايات (خطرة):
مثل التجسس، الفرار من الميدان، التحريض على التمرد، وتصل عقوباتها إلى الإعدام أو السجن حتى 15 سنة أو الطرد المؤبد.
رابعًا: أبرز الجرائم العسكرية وأحكامها
- الخيانة العظمى والتجسس:
يُعاقب عليها بالإعدام، خاصة في حال التعاون مع جهات معادية أو تسريب معلومات عسكرية حساسة. - الفرار من الميدان:
يُعاقب عليه بالسجن، وتُشدد العقوبة في حالة الحرب، ويُطرد الفار عند التكرار. - سوء استعمال السلطة:
يُعاقب من يستخدم رتبته لتحقيق مصلحة شخصية أو الإضرار بالمرؤوسين بعقوبات تأديبية وربما الطرد. - الرشوة والاختلاس:
يُعاقب بالسجن والطرد مع استرداد الأموال متى ثبت التورط في التلاعب المالي أو التزوير. - التحريض والتمرد:
يُعاقب عليه بعقوبات مشددة لما له من أثر خطير على وحدة وتماسك القوات.
خامسًا: إجراءات المحاكمة وضمانات الدفاع
- الإحالة بعد التحقيق:
لا تُحال القضايا إلا بعد توفر أدلة مبدئية ومرور القضية بتحقيق ابتدائي ونهائي. - التحقيق داخل المحكمة:
يشمل استجواب المتهم، الشهود، مراجعة الأدلة، والاطلاع على سجله العسكري. - سماع الدفاع:
يُمنح المتهم كامل الحق في تقديم دفاعه شفهيًا وكتابيًا، واستدعاء الشهود. - إصدار الحكم:
تُصدر الأحكام بشكل مُسبب ومبني على اقتناع الهيئة القضائية بناء على الأدلة المقدمة. - الاجتهاد القضائي في حالة الشك:
يُمكن استبدال العقوبة بالإقامة الجبرية أو الإبعاد عند عدم كفاية الأدلة بشكل حاسم.
سادسًا: عقوبة الطرد من الخدمة العسكرية
يُعد الطرد من أقسى العقوبات غير الجسدية، ويترتب عليه:
- التجريد العلني من الرتبة أمام زملائه
- الحرمان من المستحقات والترقيات
- الإدراج في قوائم الممنوعين من العودة لأي وظيفة عسكرية حكومية
ويُنفذ الطرد مع أو بدون السجن حسب تقدير المحكمة.
سابعًا: مسؤولية الأطباء العسكريين
تتضاعف مسؤولية الأطباء العسكريين نظرًا لحساسية دورهم، ومن ذلك:
- إصدار تقارير طبية غير صحيحة يُعاقب عليه بالسجن من 3 إلى 6 أشهر.
- في حال التكرار أو التواطؤ في تسهيل جرائم (كالفرار)، يُفصل الطبيب من الخدمة.
ثامنًا: الطابع التأديبي للنظام العسكري
يجمع النظام العسكري بين الطابع القضائي والتأديبي، حيث لا يقتصر على فرض العقوبات بل يهدف إلى تقويم سلوك العسكريين وتحقيق الانضباط. وفي حالات خاصة، يُجيز النظام استبدال العقوبة بالإبعاد أو السجن المؤقت، شريطة توافر مبررات قوية ومقنعة.